سيري يا نورماندي
اعيدوني فقد مللت الرحيل .
على متن هذه السفينة الصغيرة ، سفينة مهترئة ، نظرت اليها ، ليس لها اسم ، صاح علينا القبطان هي اركبوا ، لم اكترث ، حملت حقيبتي ، وقلت سيري يا نورماندي ، هكذا اسميتها .
كانت السفينة صغيرة على عدد الركاب ، الكل فيها يحمل حقيبة وينظر الى الوراء بشوق وحزن ، فهي ذاهبة الى ألا عودة ، كلنا مهاجرون، من مصير محتوم الى مصير مجهول .
كلنا تركنا احلامنا وحياتنا واهلنا ورائنا ، لم نعد نستطيع العيش في المكان الذي ترعرعنا فيه ، وداعا ارض الذكريات ، وداعا يا ارض ملئتها الحكايات ، بين حب وعشق وفتاة شعرها اصفر ، وشجرة زيتون ، والعشب الاخضر والثوب الابيض ، كله ذهب .
رحلنا من موت اكيد الى موت مجهول المصدر ، الموت فيه مجهول ، فموج البحر لا يرحمنا ، الا تكفي مشقت الخياة يا بحر ، لا تغرقنا ، ومشقة الغربة ، هاربين من غربة بلادنا الى غربة الغربة .
الطريق طويل وشاق ، والايام تسير ، سيري يا نورمندي ، فلا شيء يستحق الحياة ، السماء من فوقنا ، ومن حولنا بحر وامواج ، كان البحر جميل قبل الرحيل ، اما الان اصبحت للبحر كاره ، وكارها لمن اجبرني على ركوبه .
بدأت استمع الى حديث المهاجرين معي ، لا احد يتكلم مع الاخر ، لكن كل واحد فيهم يتمتم ويهمس بهواجزه ، كأنه يكلم نفسه في هذا البحر العميق ،يواسي نفسه ، سيري يا نورمندي .
هذا شاب يحمل اوراق مجعدة كثيرة ، يخرجها يقرأها ويعيدها ، هذا حاله في المركب ، استرقت النظر ، انها رسائل من حبيبته اعتطه اياها قبل السفر ، كتبت له فيها :
{ عد لي يا حبيبي ، عد على قدميك او محمولا على اكتاف الرجال ، حيا او ميت ، فلا طاقة لي بالعيش دونك ، ولا تجعل الغربة تنسيك احبائك ، وسأبقى على عهدك حتى تعود } .
انه شاب مسكين ، مهاجر ليعمل بالخارج لكي يستطيع ان يعيش في بلاده بكرامة .
وشاب اخر يخرج من حقيبته صور صغيره ينظر اليها ويرجعها ، هذا حاله طول الطريق ، استرقت النظر ، رجل وإمرأة كبيران بالعمر ، انهم والديه ، يشتاق لهما .
يبدو ان قساوت الحياة اجبرته على الرحيل ، فعشقه لوالديه كبير ، سيشعره بالحزن طوال حياته ، سيبقى قلبه مشغول بهما طوال عمره ، حزنت عليه كثيرا .
وشاب اخر اخرج من جيبه سيجاره ، اشعلها وبدأ يدخن ، عيناه تدمعان ، فكان لا بد لي ان اسأله عن حاله ويا ليتني ما سئلت .
فحرقت قلبه ومرارة الحياة والألم والحزن الذي فيه ليس في غيره ، الرحيل بالنسبه له كإنتزاع قطعة من قلبه ، لقد اجبروه ، واغلقوا كل الطرق امامه ، واداقوه قسوت الحياة ، اذلوه وهانوه .
كان قلبه منفطر ، كان محطم ، لا عليك يا صديقي ، ستسير المركب بنا حتى نصل ، لكن في داخلي اقول ان الموت اقترب ، فالامواج تزداد شدة والمركب امتلأ بالمياه .
اما انا فما عدت اطيق الهروب ، اعيدوني ، فلا طاقة لي بالهروب بعيدا عن اهلي واحبائي وارضي ، دعوني اموت بجانبهم ، افضل من الموت بين امواج البحر ، او الموت مذلتا بين الغربة الموحشة .
تعليقات
إرسال تعليق